النذور والوعود في التراث الشعبي اللبناني


النذور والوعود في التراث الشعبي اللبناني: حكاية إيمان وخوف ورجاء

في قلب القرى والبلدات اللبنانية، بقيت النذور واحدة من أكثر الممارسات الشعبية حضورًا وتأثيرًا.
كانت النذور — وما زالت — طريقة الناس للتقرب من الغيب، وطلب الحماية، والالتزام بوعود يقدّمونها حين يمرّون بضيق أو همّ أو مرض.

في لبنان، النذر ليس مجرّد عادة، بل طقس عميق الجذور يشبه، في قوّته العاطفية، ارتباط الناس بـ تفسير الأحلام أو التبصير بالفنجان أو حتى الاستعانة بالتمائم لدرء العين والحسد. كلّها حلقات مترابطة من الثقافة الشعبية التي لا تزال تعيش حتى اليوم.


ما هو النذر ولماذا يقدّمه الناس؟

النذر هو وعد يقطعه شخص على نفسه بأن يقدّم شيئًا — مادّيًا أو رمزيًا — إذا تحقّقت أمنيته.
مثلاً:

  • “إذا شُفي ابني… أذبح خروفًا وأوزّع لحمه.”
  • “إذا نجحت العملية… أعلّق شمعة لمدة سبعة أيام.”
  • “إذا رجع الغايب… أزور المقام وأقدّم صدقة.”

النذر هنا ليس “رشوة للغيب”، بل رسالة امتنان وشكر.
الناس يرونه طريقًا “لإكمال الناقص” أو “تقوية الرجاء”.


طقوس النذور كما عاشها اللبنانيون

1) الذبح والتوزيع

يُعتبر ذبح الخروف أو الدجاجة أحد أشهر أنواع النذور.
وكانت العبرة ليست بالذبيحة نفسها، بل بالتوزيع:
كل ما يخرج من النذر يجب أن “يمشي للناس”، للفقراء والجيران.

2) الشموع والصلوات

في الأديرة والكنائس والمقامات، تُضاء الشموع بحسب حجم الأمنية:

  • شمعة صغيرة “لطريق الخير”
  • شمعة كبيرة “لنهاية الهمّ”
  • سبع شمعات “لمرحلة مصيرية”

3) الزيارات والوعود السنوية

بعض الناس يقدّم نذرًا متكررًا مثل:
“كل سنة… أزور مزار سيدة… أو ضريح الولي”.
وتُعتبر هذه الزيارات جزءًا من هوية العائلات.

4) الصناديق الصغيرة “القلوب”

في منازل عديدة، كان يُحتفظ بـ “صندوق النذر” داخل الخزانة.
توضع فيه مبالغ صغيرة حتى يأتي وقت تقديمها.


النذر بين الخوف والرجاء

يمتزج النذر بمشاعر معقدة:

  • الخوف من المجهول
  • القلق من فقدان شيء عزيز
  • الأمل بقوة غيبية تساعد
    وهذه المشاعر هي نفسها التي تجعل الناس يلجؤون إلى قراءة الكف حين يضيع الطريق، أو قراءة الفنجان حين يحتار القلب.

فالتراث الشعبي اللبناني شبكة مترابطة:
إذا حلم أحدهم بحلم سيّئ يلجأ للنذر “لردّ الشر”، وإذا شعر بالحسد قد يقدم نذرًا “لفكّ العقدة”، وإذا رأى بصير بالفنجان “رمز خطر” قد يربط ذلك بنذر قديم لم يفِ به.


رمزية النذر في المجتمع اللبناني

النذر ليس عبادة، وليس سحرًا، وليس تقليدًا عابرًا.
هو لغة خاصة بين الإنسان والمجهول…
بين ضعفه وبين الأمل…
بين خوفه وبين رغبته في الشعور بالسيطرة.

وهكذا تحوّل عبر الزمن إلى معلم ثابت من معالم التراث الشعبي، تمامًا كما تحوّلت الأمثال اللبنانية وقصص الريف إلى ذاكرة حيّة تحفظها الأجيال.


النذر في الحياة اليومية اليوم

رغم الحداثة، التكنولوجيا، وتغيّر نمط الحياة…
لا يزال النذر موجودًا:

  • أمّ تشعل شمعة لابنها قبل الامتحان
  • شاب يقطع وعدًا خلال أزمة
  • عائلة تقدّم صدقة “بنية الستر”

لأن النذر لم يكن يومًا عادة فقط…
بل طمأنينة.


Scroll to Top