في لبنان، يكاد لا يخلو بيت من قصص “العين” و“النظرة” و“الحسد”. هذا الموروث الشعبي العميق ما زال يعيش في الذاكرة، ويظهر في العبارات اليومية مثل: “عين الحسود فيها عود” أو “ديري بالك من عين العاطل”.
ووراء هذه الجمل القصيرة عالم كامل من الطقوس والمعتقدات التي رافقت الناس منذ مئات السنين.
العين… نظرة “قادرة” في المعتقد الشعبي
يرى اللبنانيون أن “العين” هي قدرة الشخص على إلحاق الضرر بالآخر فقط عبر نظرة حاسدة أو كلمة عابرة.
ويقال إن العين تُصيب:
- الصحة
- الرزق
- الجمال
- الزواج
- الأطفال
ومن القصص المتناقلة في القرى أن بعض الأشخاص ذوي “النظرة القوية” كانوا يُحذرون من حضور الأعراس كي لا “يُفَلّتوا” العين بدون قصد.
الحسد في الحياة اللبنانية اليومية
الحسد ليس فكرة مجردة في الذاكرة الشعبية، بل كان جزءًا من تفسير الأحداث اليومية.
إذا انكسر شيء فجأة، أو مرض طفل بلا سبب واضح، أو تعثّر مشروع… كان يُقال فورًا:
“في عين مضروبة علينا”.
حتى اليوم، كثير من النساء يضعن الخرزة الزرقاء في السيارات، المنازل، وحتى في أعناق الأطفال، كأنها خط الدفاع الأول.
الخرزة الزرقاء… الحارس الأزلي
اللبنانيون يعتقدون أن “الخرزة الزرقاء” تمتص الشرّ وتردّ الحسد.
ويُقال إن لونها “يبطل مفعول العين”… وهي رمز يظهر في:
- الأبواب
- السيارات
- المهد للأطفال
- الإكسسوارات
- مشدّات اليد
حتى في التلفزيون اللبناني القديم، كثير من مقدّمي البرامج كانوا يعطون نصائح لاستخدام الخرزة الزرقاء للحماية.
طقوس الحماية: الملح، البخور، وبيت السبع
البعض يستخدم الملح لرشّ زوايا البيت.
والبعض يشعل البخور يوم الجمعة.
والبعض يقرأ “المنطرة” بعد المغرب.
وهذه الطقوس ليست غريبة عن محيط التراث الآخر، فهي تشبه ما يظهر في قراءة الكف التي سنكتب عنها لاحقًا، وما يرتبط أيضًا بـ تفسير الأحلام الذي يعتبره الناس رسالة واضحة عن نوايا الآخرين.
بهذا الشكل، تتداخل العادات جميعها:
العين – الحسد – الكف – الأحلام – الفنجان… لتشكّل منظومة واحدة من الإيمان الشعبي.
العين والحسد في القرى اللبنانية
في الريف، كانت القصص أكثر قوة وتأثيرًا.
تنتشر حكايات عن امرأة “تكسّر الحليب بمجرد النظر” أو رجل “يبسّ الزرع” بنظرة حسد واحدة.
وتحكي الجدّات حتى اليوم عن أشخاص تجنّبوا أذية العين عبر تميمة من خيط أحمر تُربط حول المعصم.
كيف كان الناس يحمون أنفسهم؟
بعض أشهر الطرق التقليدية:
- تعليق خرزة زرقاء خلف الباب
- إشعال البخور صباح كل أحد
- وضع الملح عند العتبة
- كتابة آيات صغيرة على ورقة وتعليقها فوق السرير
- ارتداء خيط أحمر للأطفال
- ترديد عبارات مثل: “اللهم ابعد العين”
العين في الثقافة اللبنانية الحديثة
مع انتقال الموروث إلى القرن الجديد، انتقلت معه رموزه، خصوصًا في:
- المسلسلات اللبنانية
- الأغاني
- البرامج التلفزيونية
- مواقع التواصل
حتى في مجلات التراث الشعبي، كثير من المقالات تربط بين العين والحسد وبين العادات الأخرى مثل:
(قراءة الكف) و(الأحلام وتفسيرها)، والتي ستأتي مقالاتها لاحقًا ضمن السلسلة.
خاتمة
لا يزال الحسد جزءًا من الوعي الجمعي في لبنان، مهما تطوّر الزمن.
هو خليط من الخوف، الإيمان، التجارب، والتقاليد التي لم تغيّرها سنوات الحداثة.
وكما في التبصير بالفنجان، وقراءة الكف، وتفسير الأحلام، يبقى الحسد جزءًا مهمًا من التراث الشعبي اللبناني الذي نعود إليه كلما أردنا فهم عمق هذه الثقافة.