قصص وأساطير من الريف اللبناني: ذاكرة الليل والحكايات القديمة

يملك الريف اللبناني ذاكرة خاصة لا تشبه أي مكان آخر.
حكايات تُروى على ضوء القنديل، وأساطير تنتقل من جدّة إلى طفل، نسجت جزءًا كبيرًا من هوية القرى والجبال. هذه القصص لم تكن للتسلية فقط، بل كانت وسيلة لحماية المجتمع، لإيصال الحكمة، ولزرع الخوف حين يجب زرعه.

في هذا المقال، نغوص في أشهر الأساطير اللبنانية التي لا تزال تعيش في ذاكرة الناس حتى اليوم، تلك التي ترافقها روائح القرى القديمة وأصوات السهرات على الدكاكين.


الندّاهة اللبنانية: التي تنادي ليلًا

في القرى القريبة من الأنهار والغابات، تنتشر قصّة امرأة يُقال إنها تظهر بعد منتصف الليل، بصوت خافت ينادي من يعرف ومن لا يعرف.
بعض أهل الريف يؤكدون أن الندّاهة ليست شريرة دائمًا، لكنها تحب استدراج الفضوليين.
ومع كل رواية، كانت العجائز تضيف العبرة:

“مش كل صوت لازم نسمع له… الليل إله ناسه.”

ويقول البعض إن النداهة تُشبه مخلوقات القصص التي تفسّرها الجدّات بنفس طريقة قراءة الكف أو تحليل الحسد، كجزء من ثقافة التحذير الشعبي.


أم الصبيان: زائرة الليل التي تخيف الأطفال

من أشهر الأساطير اللبنانية، وتُستخدم غالبًا لتهذيب الأطفال أو منعهم من السهر.
يقال إنها امرأة طويلة الشعر، لا تقترب إلا من البيوت التي يكثر فيها الشجار أو يعلو فيها صراخ الأولاد.
البعض يربط قصّتها بمعتقدات العين والحسد، إذ كانت الأمّهات قديمًا يؤمنّ أن الأطفال أكثر عرضة لـ “النظرة”، ولذلك يخافون من أي كائن يزورهم ليلًا.


وحش الوادي: ظلّ الجبل الذي يحرس الحدود

في القرى الواقعة على حدود الجبال، تنتشر أسطورة “وحش الوادي”.
كانوا يقولون إنه مخلوق ضخم لا يظهر إلا عندما يكون القمر كاملًا.
الجدّات يصفنه دائماً بأنه “ظلّ وليس جسدًا”، يمرّ بين الأشجار ولا يترك أثرًا.

هذه القصّة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بفكرة النذور والوعود، إذ كان أهل الريف يتقرّبون من الكنائس والأديرة القديمة، ويقدّمون وعودًا كي تحفظهم من “السوء” الذي يتجسّد في الأساطير.


الغولة: المرأة التي تتبدّل ملامحها

الغولة موجودة في أغلب البلدان العربية، لكن نسختها اللبنانية مختلفة قليلًا.
يقال إنها امرأة جميلة الشكل في البداية، تظهر للرجل المسافر أو الذاهب إلى عمله ليلًا، ثم تتبدّل ملامحها فجأة لتصبح مرعبة.

وكانوا يقولون دائمًا:

“الغولة ما بتقرب إلا على اللي بيمشي وحده.”

هذه الحكاية كانت وسيلة لترهيب المراهقين من السهر الطويل، تمامًا كما كانت الأمثال اللبنانية تُستخدم لإيصال الحكم بطريقة غير مباشرة.


أسطورة الشجرة التي تبكي

في بعض القرى الجبلية، تنتشر قصة شجرة قديمة يسمّونها “الشجرة الباكية”.
يؤكد أهل القرى أنّ قطرات الندى التي تتساقط عنها فجراً ليست ندى، بل دموع امرأة ظلمها زوجها، فتحوّلت روحها إلى شجرة.

هذا النوع من الأساطير كان وسيلة للتعبير عن الوجع والظلم الاجتماعي، ويماثل القصص التي تُروى في تفسير الأحلام حين يحاول الناس فهم رسائل خفية وراء الصور والرموز.


أسطورة الحجر الذي يتحرك ليلاً

في قرى الجنوب والبقاع، يروي سكان الريف أن هناك حجراً كبيراً يتحرّك مرة كل سنة.
لا أحد رآه يتحرك، لكنهم يرون آثاره دائمًا.
وتقول الأساطير إن هذا الحجر “يحرس حدود القرية من الشرور” التي يجلبها الحسد أو نوايا الغرباء.


أهمية هذه الأساطير في الثقافة اللبنانية

هذه الحكايات لم تكن للترفيه فقط، بل كانت:

  • وسيلة لحماية الأطفال
  • طريقًا لنقل الحكمة
  • طريقة لضبط السلوك الاجتماعي
  • محاولة لتفسير الغموض في زمن بلا علم
  • وأداة لربط الناس بماضيهم

وهي تتكامل مع ممارسات أخرى من التراث مثل:

  • التبصير بالفنجان (كما كتبنا سابقًا)
  • قراءة الكف
  • تفسير الأحلام
  • معتقدات العين والحسد
  • النذور والوعود
  • الأمثال الشعبية

وهذه الروابط تُظهر أن التراث اللبناني نسيج واحد متصل.


خاتمة

يبقى الريف اللبناني مساحة عامرة بالحكايات والأساطير، بعضها نابع من خيال الأجداد، وبعضها قريب من طقوس اجتماعية وثقافية تمتدّ مئات السنين.
ومهما تغيّرت العصور، تبقى هذه القصص جزءًا من ذاكرة الناس، تُحكى عند أول جلسة شاي، أو عند أول ليلة مقمرة فوق الجبال.

Scroll to Top