في البيوت اللبنانية القديمة، لم يكن فنجان القهوة مجرّد مشروب، بل نافذة صغيرة على ما قد يأتي.
كانت الجدة تُدوّر الفنجان بحركة ثابتة، تقلبه على الصحن، وتتركه “ينشف” قبل أن تقول بصوت واثق:
“هلق منحكي… وبنقول المكتوب.”
التبصير بالفنجان ليس عادة عابرة، بل جزء من الذاكرة الشعبية اللبنانية، تمامًا كما كانت الأحلام تُفسّر على طاولة الفطور، وكما كانت اليد تُقرأ في الجلسات المسائية على ضوء القنديل.
كيف تبدأ القصة؟
تبدأ الحكاية بفنجان قهوة مرّة، يُشرب على مهل.
وعندما ينتهي الشخص من شربه، تُقلب الفنجانة لأسفل الصحن كي تتشكل الرسومات والخطوط التي ستُقرأ فيما بعد.
بعض الجدات كنّ يعتبرن أن القلب الطيب يترك خطوطًا هادئة، وأن صاحب الهموم “بتنقّط فنجانتو سوا”.
كيف تُقرأ الفنجانة؟
القراءة الشعبية تعتمد على 3 أجزاء:
1) القاعدة – الجذور
يقولون إن القاعدة تُظهر الماضي وما تركه في القلب.
إذا ظهر خط غامق مستقيم، كان يعني “قصة بعدا معلّقة”.
2) الجوانب – الطريق
هنا تظهر الخطوط التي يسمونها طريق السفر أو طريق الرزقة.
إذا كان الطريق مفتوحًا، فهذه بشارة خير.
وإذا كان مقطوعًا، يقولون: “في شي راح يتأجّل.”
3) العُنق – القلب والحب
هذا الجزء هو الذي تنتظره معظم النساء.
رسمة تشبه الطائر قد تعني رسالة.
رسمة تشبه القلب تعني علاقة جديدة أو صلح قريب.
وإذا ظهرت نقاط صغيرة، يقولون إنها دموع رايحة مش جاية.
رموز الفنجان ومعانيها
في الثقافة اللبنانية القديمة، حملت الرسومات رموزًا واضحة:
- الطائر: خبر أو رسالة
- الحصان: عزّ ورفعة
- الشجرة: بركة في البيت
- المرأة: تغيير أو دخول شخص جديد
- الرجل: سند أو عمل
وكانت النساء يقسّمن الرمز إلى “واضح” و“ملزّق”.
الرمز الواضح يعني أنه قريب، والملزّق يعني أنه بعيد بعض الوقت.
لماذا بقي التبصير جزءًا من التراث؟
لأنه يرتبط بالقصص.
في القرى، كانت قراءة الفنجان تفتح باب الكلام عن:
- العلاقات
- المصالحات
- السفر
- الغربة
- الحظ
- وحتى تفسير الأحلام
وبين حكاية وأخرى، كانت الجدة تربط ما تراه في الفنجان بما سمعته من كتب تفسير الأحلام التي كان يعتمدها الناس قديمًا… تلك الكتب نفسها التي سنحكي عنها لاحقًا عندما نكتب عن تفسير الأحلام في التراث الشعبي اللبناني.
بين الفنجان والأمثال
الطريف أن كثيرًا من الأمثال اللبنانية خرجت أصلاً من جلسات الفنجان.
مثل قولهم:
“ما في شي بيضيع، كله مبَيّن بالفنجان.”
أو:
“النيّة قبل الفنجان.”
وبين رشفات القهوة، كانت القصة تتحول إلى جلسة تصالح أحيانًا، أو إلى تخطيط لمستقبل بسيط، تمامًا كما كانت جلسات قراءة الكف تجمع النساء في أمسيات الصيف.
هل ما زال التبصير حاضرًا اليوم؟
نعم، لكن بأسلوب مختلف.
لم تعد الجدة تقرأ الفنجان كل مساء، لكن بقيت الفكرة نفسها في “جلسات البنات” وفي المقاهي، وأصبحت جزءًا من “الهوية الشعبية اللبنانية”، مثل الأمثال، مثل الأحلام، ومثل القصص التي لا تنتهي عن الحسد والنذور.